الكتابة عن كل شيء

 

كتبت تدوينة طويلة عريضة، وهي أول مرة أفعل فيها ذلك منذ مدة، لكن متصفح الفايرفوكس ذي النسخة القديمة جدا في هذا الكمبيوتر القديم هو الآخر في مقهى الأنترنت الأقدم من كليهما، غلق فجأة وفقدت معه التدوينة. كي أختصر فقط سأنطلق مما وصلت إليه في التدوينة التي ذهبت هدرا أدراج الرياح. وصلت إلى الحديث عن الأفلام الوثائقية والسينمائية التي أشاهدها هذه الأيام وأكتب عنها ريفيوهات صغيرة وعن الممثلين وما أعجبني من أدوارهم فيها وعن الكتب التي أحبسها في مكان بعيد عن عيني للخيبة التي تطالني حين أراها أمامي ولا أستطيع تناول إحداها بالقراءة.

في هذا الشهر الفضيل تغيرت عاداتي كليا، زيادة على كوني بت أسهر إلى آخر الليل والنوم غالبية أوقات النهار والأكل بشراهة ما دفع بطني للبروز قليلا وهي أول مرة يفعل فيها ذلك منذ لازمني، آخذ راحة طويلة بعد استقالتي من العمل بقناة الشروق مؤخرا، لذلك أنا في منزل العائلة، أقضي رمضان مع والدي وإخوتي محاولا أن استغل هذه الفرصة لأتمتع معهم بميزات هذا الشهر قدر الإمكان. مما طرأ على عاداتي كذلك أني بت أتكاسل عن التواصل مع الأصدقاء خصوصا على النت، ابتعدت عن النت وعن الفايسبوك وحتى عن هنا عن مدونتي التي لم أدون فيها في الشهرين الماضيين إلا موضوعا أو اثنين وهو أمر في الحقيقة يحزنني إذ أن مفكرتي امتلأت بما أكتبه يوميا عن حياتي وعن ما يجد في رأسي من أفكار ومواضيع وأرغب في نقلها إلا هنا ولكن الكسل يرقبني بعيني صقر ويهاجمي بمخلبي نسر إن ما أنا فكرت في ذلك حتى..

خلال هذا الشهر تولدت لدي رغبة غريبة جراء الفراغ الذي أعيشه وهي الرغبة في الكتابة، الكتابة عن كل شيء، في لحظة وأنا جالس أشاهد فيلما أو سلسلة على التلفزيون تطرأ في بالي فكرة ساذجة وأرغب بأن أكتب عنها شيئا، يقول ممثل في فيلم ما كلمة أو يذكر اسما لقرية أو شخص ما أو حادثة فتجتاحني رغبة الكتابة عنها أيضا، أتناول مفكرتي وأكتب شيئا لكن في غالبية ما أكتب يظهر النص ناقصا وأعجز عن إتمامه، موضوع من ستة أو سبعة أسطر لا يحمل معنا معينا فأتركه مبتورا كما ولده قلمي وأغدو إلى نص جديد ينساق هو الآخر للنقصان. ولكن بين كل هذا وذاك أنجح أحيانا في كتابة شيء يرضيني بعد كل خيبة تطالني جراء نصوص سقيمة..
في هذا الشهر الفضيل كثرت مشاهدتي للتلفزيون، أشاهد أفلاما كثيرة وعديدة، سلسلات وبرامج أمريكية وحتى الرسوم المتحركة التي وجدت لها وقتا لاستمتع بها رفقة أخي الصغير، أفعل ذلك ومفكرتي في يدي أضافة إلى هاتف الأيفون الذي أدون به هو الآخر ما أريد البحث عنه على النت. كلما سمعت جديدا من الأسماء والمناطق والأحداث أستعين بها على التوسع في معرفة المزيد عنها بأن أحفظها.

bbc

البارحة فقط شاهدت على قناة البيبيسي عربية bbc arabic وثائقيا حول المخدرات والهيرويين في أفغانستان، وقد كان ما شاهدته في هذا الوثائقي الذي أنجزه صحفي أفغاني مقيم ببريطانا مرعبا بالفعل، فرغم معرفتي السابقة بأن أفغانستان دولة منتجة وشعبها من أكثر الشعوب استهلاكا للمخدرات، لم أعتقد بأنها الأولى استهلاكا بمدمنين يصل عددهم إلى المليون وبأنها تنتج أكثر من 90 بالمائة من الأفيون في العالم والذي يستخرج منه الهيروين وبالحالة الرهيبة التي هي عليها هذا البلد من إنتاج واستهلاك المخدرات، في لحظة انقلبت الصورة التي أحملها عن أفغانسات التي أثقلتها الحروب بدءً بالحرب السوفيتية ثم حكم طالبان وصولا إلى الغزو الأمريكي إلى صورة بلد يعرفا غزوا من نوع آخر، عبر عنه الصحفي الذي أنجز الوثائقي وهو يختتمه بالقول أن مستقبله مجهول.

في البرنامج نتابع مع الصحفي رحلة إلى وادي كابول الذي يضم العشرات من المدمنين على الهيرويين يقصدون الوادي مكان تجمعهم للادمان وسط الأوساخ وبقايا الإبر التي يستعملونها لحقن أنفسهم.

لمشاهدة الوثائقي ومقالة عنه بالانجليزية على موقع قناة البيبيسي على النت (من هنا)
كنت سأكتب طويلا عن هذا لوثائقي، لكنني سأكتفي بهذا القدر بسبب الكمبيوتر المعوج الذي أجلس أمامه الآن، يجعلني أتعب كثيرا في ضبط التدوينة وحفظها.

قراءة وكتابة في ليلة باردة

في غمرة الوحدة التي تنساب مع البرد في هذه الليالي الشتوية، كل ما أريده وبشدة هو أن أقرا وأقرا وأقرا، لدي زاد من الكتب يكفيني إلى نهاية فصل الشتاء، عشرات الروايات التي تنتظرني صفحاتها كي أنشغل بها مع كتب أخرى في السياسة والفكر وغيرها.

أنغمس في قراءة رواية “باولا” لإيزابيل الليندي، أقرا باشتهاء كل حرف تكتبه تلك الرائعة التشيلية التي تبرع جيدا في غرس قرائها في عالمها الواسع الذي يتشعب كلما استسلمنا للذة الحكايا التي ترويها على مسامعنا. بعد كل ذلك، وبعد أن ينالني نوع من الخدر في عيني أتحمس للكتابة، لا أعرف لم كلما قرأت شيئا تطالني معه رغبة خفية في الكتابة؟ !. ليس هناك شيء معين أرغب في الكتابة عنه، فقط رغبة خفية تحدوني لأرفع قلمي وأخط شيئا ما على الورق، قد يصبح الأمر عبثيا حين لا يكون هناك شيء ما نفكر في كتابته، فتتحول تلك الرغبة إلى رموز غريبة أخطها على الأوراق، وأحيانا تكون تلك الرسومات بلا معنى واضح، ولأنني لست بارعا في الرسم، يشعرني ما أخطه على الأوراق بخيبة أمل في رغبتي بالكتابة. وأحيان أخرى، على صفحة الوورد على الكمبيوتر أرسم بعض الحروف اللامتناسقة، أحاول بشدة أن أعبر عن الحماسة في داخلي بكتابة شيء له معنى، لكنني أفشل في ذلك. أكتب سطرا أو سطرين وأحيانا فقرة كاملة لكنني سرعان ما أضغط على زر الحذف حتى تروح الحروف يختفي الواحد منها تلو الآخر، وأعود مجددا إلى إيزابيل معلنا فشلي ربما من إبداع شيء شبيه ببعض ما كتبته، متأكد من أن الكاتب دوما ما يؤثر أسلوبه الكتابي في القارئ، وهذا ما تفعله معي الروايات فأحاول تقليد كتابها في إبداعاتهم، وهو سبب فشلي في أن أبدع في كتابة شيء ما.

بالعودة إلى الرغبة في القراءة، تحكمني عادة غريبة لم أستطع التخلص منها وهي قراءة عدة كتب في نفس الوقت، الآن مثلا، بين يدي رواية “باولا” لإيزابيل الليندي والتي قرأت نصفها وكتاب “ضغط الكتابة وسكرها” للكاتب السوداني أمير تاج السر، وكذا كتاب مترجم عن المملكة العربية السعودية اسمه “المملكة من الداخل” لمؤلفه روبرت لاسي (هذا الكتاب لا أعرف حتى لم اقتنيته، سأكتب تدوينة عن كيف أثر  تسويقه على الانترنت في حتى اشتريته)، هذه الكتب الثلاث أتداول على قراءتها بشكل شبه يومي على الرغم من أن العمل يأخذ مني كل وقتي وما تبقى من وقت يذهب للراحة أو للنوم. لكن رغم ذلك أشتهي أن افتح كتابا وأقرا منه حتى أشعر برغبة في الغوص فيه عميقا. أعترف أن هذه العادة ليست جيدة إذ أنني أفقد تركيزي ما بين الكتب الثلاثة، ولا يتعلق الأمر حين قراءتي لهذه الكتب في نفس الوقت بالاستفادة منها بقدر ما يكون الأمر مجرد رغبة في إشباع جوع داخلي، شره القراءة ربما، قرأت مرة عن مرض يصاب به الكثيرون ممن لديهم رغبة كبيرة في القراءة، وكأن القراءة تصبح عند أولئك كالأكل عند من هم مصابون بشره الأكل.

بخصوص الكتابة، على الرغم من أنني أكتب يوميا ما يفوق الخمسمائة كلمة في مختلف المواضيع الصحفية التي أكتبها، إلا أنني في غير المواضيع الصحفية لا أرضى عن نفسي، بل حتى في الكثير من المواضيع الصحفية التي أكتبها لا أفعل ذلك، لا اعرف السبب.. بعض من هم حولي ويحتكون بي يثنون على كتاباتي ويقولون أنها رائعة، لكن في داخلي أشعر برغبة في حذف كل أكتبه بعد مرور وقت قصير على كتابته، هذا الإحساس بالنسبة لي يشبه تفسير إحدى قبائل الحضارات القديمة للزمن الذي حسبها يتكون من الماضي وفقط، “الحاضر” عندها لا نعيشه لأنه يتحول في رمشة عين إلى ماضي، هي كذلك بالنسبة لي كتاباتي تصبح في رمشة عين، كتابات ناقصة لا تصل إلى حد أن أرضى عنها بأن تبقى بعض الوقت “حاضرا” أو ترتقي لأن تصبح “مستقبلا” ربما لدى تلك القبائل، والذي هو غير موجود طبعا.

ورغم أني أخط الحروف ها هنا بصعوبة، من دون رضاي التام عنها، أحاول جاهدا بقدر رغبتي الكبيرة في القراءة وممارستها فضلا عن ذلك أن اكتب وأنا ارغب في ذلك أيضا، لا أنكر أن إيزابيل الليندي ألهمتني.. تلك المرأة القصيرة التي تتحدث عن كل شيء، عن تفاصيل يومية عاشتها ماضيا، وبعضها التي تجاوزت عمرها. أريد كذلك أن اكتب عن تفاصيل صغيرة عايشتها وأعايشها فقط لأحس قليلا بوجودي.. أليست الكتابة في الأخير دعوة للخلود؟.

في الأخير، سعيد لأني كتبت شيئا، سعادة ربما غير مكتملة لأن ما كتبته لا يرضيني بالكامل، لكن من جهة أخرى بعض السعادة تكمن في قدرتي بشكل ما على تجاوز الحاجز الذي كان بيني وبين الكتابة.

حالة هوس بالكتابة

ماذا أريد أن اكتب؟ ولماذا أريد أن اكتب؟, أسئلة تحيرني قبل أن ارفع قلمي لأفعل ما يريده شيء ما بداخلي… أن اكتب, اكتب وفقط عن كل شيء وبكل شيء.

لماذا تريد أن تكتب؟ أنت تعرف أن لا احد يهتم, لا احد يقرا, القراءة مهنة رخيصة هذه الأيام, إنها لا تأكل خبزا… لا احد سوف يقرا, لا احد سيسمع.

ويعود إلي هوسي كما يعود عزازيل إلى هيبا مطالبا إياه بالفصح عما جرى ويجري له في رواية يوسف زيدان … واكتب بشدة عن هذا الحي البائس الذي ينفث سمومه, عن هذه الأرض الطاهرة الملوثة , عن هذا البأس الذي يملؤ وجوه الناس, هذا البأس الذي يحتم علينا أن نستسلم , نستسلم لكل شيء وفقط, نجاري الأحداث و نعش كما يعيشون, نعش بكل رغبة في العيش إلى آخر نفس منا, نعش وفقط, العيش هو كل ما يهم …. استسلم بكل ضعف إلى ضوضاء الحي ومشاغله التي لا تنتهي, الفقر, التخلف, المخدرات, الموظفين الفاسدين, العاهرات هنا وهناك يرسلون قبلة في الهواء لكل المارين… بين كل هذا احتاج لأكتب… اكتب بشدة.

لا شيء جميل بهذا الحي سوى اسمه” حي الأمير”, لا اعرف من أطلق عليه هذا الاسم, لكنه حتما ارتكب إجراما بحق تاريخ رجل عظيم.

الصداع يؤلمني وجميع أطرافي…المطر يتساقط و البرد شديد , أنا محتم هنا و راسي يؤلمني , أحسني مقيد , أكثر ما يثير سخطي هذا البرد, مدينتنا الموبوءة لم تحتمي حتى من البرد… شردت أطفالها ونسائها ورمتهم قبالة خط الجليد… سيقتلنا خط الجليد… نعيش كفئران خائفة في هذا العالم الموحش, نعيش في كهوف رهيبة في هذا الحي البائس, نقاوم من اجل العيش, لا شيء آخر يهم, أن نعيش وفقط هو كل ما يهمنا, أن نحقق لذة الوجود بان نعيش لأطول فترة ممكنة , و المستقبل , المستقبل بالنسبة لنا هو أن نعيشه, لا يهم كيف يكون, المهم أن نصله كي نستلذ بأنفاسنا فيه … هذا كل ما نريد.