يوم بلا عمل

الفيل الأزرق

لحظي الذي لا أعرف لو وصفا محددا سيئا كان أو جيدا. أخذت يوم أمس عطلة من العمل لأعود الطبيب في ألم حل بي، خلافا للأيام العادية التي أستيقظ فيها على الخامسة فجرا، انتقمت من الساعات الأولى للصباح التي كنت أقضيها خلف مكتبي بأن نمت إلى قرابة الساعة العاشرة، كان نوما شريرا بحق، شعرت برغبة كبيرة في أن أكمل النوم إلى الساعة الواحدة أو الثانية ظهرا..
خرجت متثاقلا ثقل جو ذلك اليوم من المنزل. على العاشرة عادة ما تكون حركة المرور بالعاصمة بؤسا على بؤس. كان في نيتي زيارة الطبيب، وذلك أول وآخر ما كان علي فعله ثم العودة للمنزل والنوم من جديد، قضيت قرابة الساعة كاملة قبل أن أصل لوسط العاصمة، هاتفت الطبيب، لم يجبني. حدث أن تحسست جيوبي لأرى كم أحمل معي من نقود، فوجدتها أقل من ألف دينار مجتمعة، احنيت رأسي بعد أن احسست تخدرا في آخره، تبا، قلت في نفسي، نسيت تماما أن أحمل معي نقودا، والأمّر نسياني لبطاقة الهوية بالمنزل بعد أن فكرت باستخراج بعض المال من حسابي. الساعة كانت تقرب من منتصف النهار، وعيادة الطبيب تغلق الساعة الثانية، قدرت أنه ليس بإمكاني الذهاب والعودة للمنزل من جديد، فألغيت على مضض موعدي مع الطبيب وكلي حسرة على ذلك..

عندما تضع في حسبانك أمرا، من الصعب بمكان أن تتخلص منه حين لا تجري الأمور كما تشتهيها. لم تكن لي خطة (B) الجأ إليها في استغلال يومي الذي ذهب نصفه هباء الرياح، قلت التجأ إلى أقرب مقهى وأهاتف غفور، قد يكون منشغلا بكتابة موضوع ما عن سياسي تافه الآن، لكنه سيجد كيف يتخلص من قيوده ويأتي، قبل أن أغض النظر عن ذلك حينما التقيت بصديق كان يرأس تحرير الجريدة التي كنت أعمل بها بعد أن شارك في وقفة منددة بالعهدة الرابعة لبوتفليقة أمام ساحة البريد المركزي، هذه الساحة التي اصبحت في الايام الأخيرة ساخنة سخونة الجو السياسي، التقيته برفقة شابين آخرين، أحدهما كان من لجنة الدفاع عن حقوق البطالين راح يمطرني بعد أن التمس اهتمامي بحديثه (والحق أني لم أكن أفعل ذلك إلا لأنني أردت تجنب خوض نقاش في السياسة) بمحاضرة سياسية عن الحقوق الاجتماعية وخزعبلات السياسيين وترهاتهم، من دون أن يتوقف عن الكلام عن التوفيق وبوتفليقة وأشكال سياسية مقيتة، الأمر الذي أرهق مسامعي بما لا أريد سماعه أبدا. غمزت صديقي الذي كان على وشك أن يتركهما يرحلان قبل أن يفعل ذلك بسرعة، ورحت وإياه نقلب حديث السياسة إلى الحديث عن المثيرات من الفتيات اللواتي غزين في ذلك النهار شارع حسيبة..

من غرائب الصدف أن التقيت بصديقين آخرين في ذلك الوقت ونحن على عتبة مقهانا المعتاد بساحة موريتانيا، لم أرهما منذ مدة، شغلنا نحن الأربعة طاولة في أحد الأركان وغرقنا في مواضيع عن النساء والصحافة والمال والأعمال والبؤس وقليل قليل من السياسة، قبل أن نفترق بعد حوالي ساعتين من الزمن…
مساء قرابة الساعة الثالثة نزلت إلى المسرح الوطني لأحضر لقاء صدى الاأقلام الأسبوعي الذي يعنى بالأدب، دخلت متأخرا عن موعد الفضاء بساعة، أول ما التقيت هناك بصديقي عبد الرزاق بوكبة، المشرف على الفضاء، جلست استمع للميس سعيدي الشاعرة الجميلة التي نزلت ضيفة لتحكي بعضا من ديوانها الجديد، قبل أن تحل الشاعرة فاطمة شعلال، تلك المرأة صاحبة الاحساس المرهف التي من غرابة الصدف أني لم أن تعرفت عليها قبل ذلك إلا بوقت قصير حينما أشادت بها إحداهن على الفايسبوك. بالنسبة لي كنت أجهل عالمها الإبداعي جهلي بالكثير من المبدعات الجزائريات. ابتسمت في داخلي أن واتتني فرصة أن ألاقيها ها هنا بعد أن رغبت في ذلك يوم أن تعرفت على أشعارها.. اتصال صديقتي إلهام التي كنت واعدتها على اللقاء جعل أمنيتي تتأجل لموعد لاحق، انسحبت من عالم الشعر تاركا فاطمة شعلال التي كانت بدأت بالحديث عن تجربتها تحكيها للحضور القليل من دوني.. انسحبت بخفة لألاقي الهام في ساحة بورسعيد وبيدها كيس به مجموعة من الكتب كنت قد طلبت منها أن تحضرها لي.. واحد منها رواية الفيل الأزرق لأحمد مراد والتي أتممت منها في أول جلسة 70 صفحة وهي الرواية التي دخلت قائمة البوكر القصيرة لأفضل الروايات العربية..
كان لقائي بالهام الثاني أو الثالث، لم نلتق هكذا سابقا مع معرفة، كان لقاؤنا الأول بمعرض الكتاب، الهام كانت بائعة بدار العين المصرية، وحدث أن زرت الدار لاقتناء كتاب “ضغط الكتابة وسكرها” لأمير تاج السر، والثاني لقاؤنا بالمسرح والثالث كذلك.
من الجميل أن يكون لك أصدقاء يقرأون وأجمل ما في الأمر هو أن تستعير منهم بعض الكتب التي لا توجد بمكتباتنا، هذا إن كان في مكتباتنا كتب بالأصل!!.  إلهام أعارتني أربعة كتب، رواية “الفيل الأزرق” لأحمد مراد، رواية “كل الأحلام تنتهي في ديسمبر” للكاتبة السعودية الشابة أثير النشمي، وروايتان أخريتان، وأنا أكتب هذا التدوينة أنسى حقا عنوانيهما.

لم التق بغفورن كان علي أن أعود إلى البيت، فتحت الفيل الأزرق حينما استقريت على كرسي شاغر بالحافلة وغصت فيها عميقا..

من أشعار فاطمة شعلال/

 «أحاول أن أنفض عن أثاث العمر غبار التردد
أرش المدى بالحلم
فقد يزهر الوعد
أنتظر
أنتظر
أنتظر
لعل دفئا يشع
فيلبسني البرد
أناغي وهما
أوله في أصبعي
وآخره لا يبدو
أركض ألاحقه
فيهمس لي الوقت
“الوقت لم يحن بعد”
ياه،، أضرب كفا بكف
لم يخطط الوغد؟
وقد صار في الرأس بياض
وعلى الوجنتين تصدع
وقد ذبل النهد؟؟»

 

رشيد نكاز رئيسا في البريد المركزي

رشيد نكاز

لم يخطر على بالي أن أكتب شيئا في السياسة، على الأقل في هذا الوقت بالضبط الذي أشعر فيه ألا ناقة لي ولا جمل في ما يمكن أن يحدث من تطورات سياسية في البلد، لأن السياسة لمتعد  تثير حماسي حتى لأتناولها بالحديث مع أحدهم.

المهم كان ذلك قبل يومين، كنت قد قررت النزول لوسط العاصمة بعد العمل وبالضبط على الساعة الثالثة بعد الزوال لسماع ما يمكن أن يقوله رشيد نكاز المرشح السابق للرئاسيات الذي خرج من التنافس على كرسي الرئاسة بطريقة أقل ما يقال عنها أنها غريبة. وصلت هناك حوالي الساعة الثانية والنصف، الجو كان ربيعيا مشمسا ومواتيا جدا لإقامة لقاء شعبي، وقد كان كذلك شعبيا وليس صحفيا. لم أحضر اللقاء لتغطيته كصحفي، كنت أريد فقط أن أسمع مِن هذا المرشح الذي كسب له تأييدا شبابيا على النت، وفي البريد المركزي أيضا ذلك اليوم من خلال المئات من الشباب الذي حضروا لقاءه. كانت رؤية أعداد الشباب الكبيرة بمحيط البريد المركزي وهم يتناقشون في الوضع السياسي للبلد تحيلك إلى صورة زاهية على الديموقراطية في البلد.. فقط لو لم أكن جزء من هذا المجتمع لطبعت ابتسامة زاهية الألوان على وجهي سعادة بذلك. لكن الأمر لا يسير على هذا النحو، إذ كان أن التف المئات من الشباب على مرشحهم “المفترض” نكاز ما إن بدأ من بعيد يتقدم وسط الشارع الرئيسي وما حدث أن يصل إلى البريد المركزي حتى كان أن اختنق المسكين من الفوضى التي عمت المكان، لم يحسب لذلك حسابا لربما، أو أن نكاز أراد أن يكون الأمر على هذا الشكل، ربما لأنه فرنسي التنشئة والتربية أكثر منه جزائري اعتقد أن أنصاره سيصطفون مثلما يصطف المصلون في الصلاة متقدما إياهم ليؤمهم بخطاب، الدور الأعنف في كل “الفوضى التي حصلت بالمكان كان للصحفيين، أولئك الذين من المفترض أن اللقاء خصص لهم، كان عليهم أن يقاتلوا من أجل أن يوصلو ميكروفوناتهم ومسجلاتهم إلى أقرب نقطة من فم نكاز. وأنا بعد مضي وقت كنت من بينهم!!. لم يكن هناك ميكروفون ليتحدث به نكاز إلى أنصاره، المئات منهم لم يسمعوا شيئا مما قاله، ومما قاله لم يقل أبدا ما جاء ، أو ما حسب الكثيرون أنه سيقوله بخصوص سرقة السيارة التي تحمل استمارات توقيعه. هل كان من غبائه أن يجتمع بأنصاره من دون وجود مكبر صوت!!. صوته لم يكن يصل وسط الفوضى إلى مترين أو ثلاث، بينما عشرات الأمتار الأخرى مساحة يحتلها عشرات الشباب لا يسمع وسطها سوى أهازيج متفرقة بعضها لا يكاد يكون لها أدنى ارتباط بنكاز أو الرئاسيات أصلا.
المهم.. بعد دقائق من صبري على بكمه قدرت أنه علي أن أناضل من أجل الوصول إليه لأطرح عليه بعض الاسئلة، وفعلا فعلت ذلك.. جاهدت للوصول إليه وسط الفوضى العارمة، وعلى مقربة منه  شاهدت الرجل المسكين كيف تكوم بين مجموعة من الشباب وكأنه فعلا رئيس للجمهورية. هو بنفسه قال ذلك “يا شباب خلوني نهدر، غدوا لوكان نكون رئيسكم تاني ماتخلونيش نهدر”. لا عجب أن عنوان  تغطية الشروق اليومي على الحدث جاء “نكاز.. رئيسا في البريد المركزي”.

وفقت في الوصول إلى نكاز، وتسجيل خطابه وكانت لي فرصة أن ساأته سؤالين اثنين أهمها كان رأيه في الحل المنطقي الذي سيلجأ إليه المجلس الدستوري في قضيته، لم يقل شيئا سوى أنه يثق في أنه سيجد حلا سياسيا، مؤكدا على “الحل السياسي”!! ولم افهم ولا أحد فهم أو سيفهم ذلك الحل السياسي.

بعد هذا انسحبت من هناك، وقد التقطت له عديد الصور والفيديوهات، كان الأمر تمام كما توقعت له أن يكون حول التجمع والأهم حول نكاز الرئيس المحتمل للجزائر، الرجل لم يكن سياسيا لا من خلال خطابه ولا من خلال تصرفاته كذلك. قد يتساءل أحدكم إن كان هناك أصلا سياسيون في الجزائر؟؟!!. وما قد لا يوافقني عليه الكثيرون، أن غالبية من حضر وقفة/ندوة نكاز لم يكونوا فعلا من أنصاره الذين يعول عليهم في أن الذهاب معه بعيدا في مشواره السياسي في الرئاسيات أو غيرها، لا أحد قد يفهم الشباب الجزائري، إنهم كاريزما خاصة من التناقضات، لهم من التصرفات والأفكار ما قد يعصف بأي دراسات نفسية واجتماعية سبق وأن أجريت. متأكد أن غالبية من حضر لم يكن ليصوت على نكاز لو ترشح، هذا لو أنهم انتخبوا أصلا!!. قد يقول قائل، لم وكيف؟. لا أعرف بالضبط من أين ينبع حكمي.. لكن ما نراه في الجو السياسي العام في البلد يؤكد ذلك.. ثم نكاز.. إن لم تكن تدري.. الكل يجعلك رئيسا بالفم فقط وعلى الفايسبوك.