كان الجو باردا حينما دخلت لإحدى المؤسسات التربوية لتبرير تغيب أخي الصغير عن إحدى الحصص و مثلما حدث المرة السابقة التي زرت فيها هذه المؤسسة لنفس السبب حينما أشرت إلى أن المعاملة مع التلاميذ كانت في قمة التخلف، هذه المرة وقفت على واقعة أحزنت قلبي كثيرا و جلعتني أعود إلى ذكريات سابقة من دراستي بالمتوسطة قبل سنوات من الآن، فأثناء دخولي للمؤسسة قابلني حارس الأمن حاملا بيده عصا سوداء طويلة، و لم تف ابتسامته العريضة في وجهي بأن تشفع له فهمي سبب حمله للعصا، طالبني بإظهار بطاقة هويتي و كي لا أجد أي غرابة في طلبه هذا أراني مقررا وزاريا معلقا في مدخل المؤسسة يوجب إظهار بطاقات الهوية لكل زائر أجنبي عنها، أعجبني المقرر حقا، لكنني تساءلت بيني و بين نفسي عن المقرر الذي يمنع العنف في المدرسة و الذي يشكل هذا الحارس بعصاه أحد أبرز أوجهه.
الملاحظة الأولى التي لاحظتها و التي لم تعجبني على الإطلاق هي حارس الأمن ذاك بعصاه، مظهر مستفز لشخص مثلي يؤمن يالتعليم المستنير المبني على احترام الآخر، لم يكن مظهر الحارس مظهرا محترما و الأسوأ أنه يسقط نظرية الإحترام عندما يشرع في ذلك الفعل الذي من أجله يحمل ذلك العصا بيده. لكن الأمر الفضيع لم يكن حارس الأمن بعصاه و إنما ما وقفت عليه بعد ذلك.
لدى ولوجي إلى إحدى قاعات الإدارة المختصة في الغيابات وقفت على إحدى المُسيرات تقوم بضرب أربع تلاميذ بعصا نحاسية مغلفة بالبلاستيك، لا أعرف كم الضربات التي كانت تتساقط على أيديهم العارية في ذلك البرد الشديد و كّم الخوف الذي كان بأعينهم و هم يتوسلون إليها كي تتوقف. لكن المشهد بما حمله من عنف ضد قداسة العقول التي تتشكل شيئا فشيئا صعقني في الصميم، أنا الذي أؤمن بوجوب معالجة نوعية الكلام الذي يطرح أمام التلاميذ لتفادي زرع أفكار غير محببة في عقولهم أجدني أشهد عصرا من التخلف التعليمي و التربوي يجسد أمامي بكل ما يحمله من تدنيس لفكرة التعليم و التربية.
مذ دخولي و إلى حين خروجي من هناك و أولئك الفتية الصغار يتناوبون على تحمل الألم و الذل بينهم، لقد شاهدتهم و هم يحاولون أن يخفوا خشيتهم من تلك العصى النحاسية، بريق غريب في أعينهم وهم يمدون أيديهم بكل أريحية لتلك المرأة التي انتزعت من قلبها الرحمة و من عقلها الفهم، فهم أنها تساعد على تشكل إحدى مصائب هذا العالم… العنف.
وقفت على مشهد أدمى قلبي. لم أرد أن أتدخل.. بقيت هناك شاهدا على جريمة فضيعة في حق عقول و أرواح بريئة قد تكون ارتكبت حماقة من حماقات الأطفال التي تحتاج منا أن نعالجها بتبيان مساوئها و أضرارها لا بارتكاب جريمة من أجل لفت الإنتباه إليها. و أنا الذي كنت أحسب أن الضرب في المدرسة قد انتهى بقانون وزاري.. القانون كان، لكن الضرب و العنف بقي.
أن يجبرك أحدهم على أن تبسط كلتا يديك لتتلقى وابلا من الضرب عليها فهذا يتعدى كونه فعلا مشينا، إنه فعل شاذ و سادي و ينمي ظاهرة العنف بكل أشكالها القذرة المقززة. و لا زال بعض الجاهلين المتخلفين فكريا يمارسون ساديتهم على أطفال صغار لم يبلغوا بعد سن الحلم، أطفال قُصر يمارسون عليهم أبشع أساليب التربية و أنواع الإهانات الإنسانية المذلة. بربكم كيف نتوقع من طفل يُحتقر في صميم انسانيته أن يصنع الغد؟، أن يكون قائدا و نحن نعلمه أن يركع، أن يذل، أن يكون لمجرد أن لم يحفظ قصيدة أو معادلة حسابية خسيسا يستحق أن يهان و يداس على كرامته.
قلتها و لا أزال أقولها و سأظل أقولها ما حييت و ما لم يتغير شيء.. المدرسة تعلمنا الذل و المهانة، تنزع منا انسانيتنا. و لا غرابة في أن نكون أحط الأمم، لأننا نجعل من خلفائنا أحط البشر.
قانون التربية صريح في هذا الإطار حيث جاء في القانون التوجيهي للتربية الوطنية –القانون رقم 08- 04 المؤرخ في 23 جانفي 2008 في المادة 21 ما يلي:
يمنع العقاب البدني وكل أشكال العنف المعنوي والإساءة في المؤسسات المدرسية. يتعرض المخالفون لأحكام هذه المادة لعقوبات إدارية دون الإخلال المتابعات بالقضائية.