مصرف الشارع

قرب ساحة بورسعيد بالعاصمة يقف العشرات من بائعي العملة الصعبة على طرف الطريق يلوحون بالأوراق النقدية المختلفة لسائقي السيارات و للمارة الذين يقصدون المكان من عدة مناطق بحثا عن صرف نقودهم إلى مختلف العملات الدولية من دولار و أورو أو العكس.

كنت أحد أولئك الذين نزلوا إلى هذه المنطقة التي يتم فيها تداول الملايين يوميا من غير حراسة و لا تنظيم و لا مسائلة و لا حتى ترخيص.

  و أنا أصل إلى هناك وجدت الكثير من أولئك الباعة مصطفين على طرف الطريق، كل من يريد أن يطير إلى الخارج يقصد هذا المكان، كل من يأتي من الخارج يقصده كذلك. لا أعرف مناطق أخرى في العاصمة لصرف العملة الصعبة، لكن هذا المكان يمثل بحق سوقا سوداء تظهر الجانب الضعيف في السياسة المالية الجزائرية التي تعجز عن التحكم في هذا الميدان فتغض نتيجة لذلك النظر عن هذه الممارسات.

كنت أريد القليل من عملة الأورو و قد كان هناك الكثير من الباعة الذين يعرضون خدماتهم. في البداية احترت من أختار.. إقتربت من أول بائع و قد كان رجلا يقارب الأربعين من العمر حاملا بيده اليمنى رزمة من الأوراق النقدية ذات الألف دينار و باليد الأخرة رزمة من الأورو، الرجل الذي لم يكن يفصل بيني و بينه مسافة طويلة كان يسترعي انتباه السيارات القادمة من جهة ساحة البريد المركزي وقبل أن ألقي عليه التحية، لوح لي أحد الشباب الباعة الذي كان غير بعيد عنه برزمة الأوراق التي في يده مستعرضا خدماته.. أعجبتني طريقته في التسويق لنفسه. تحاشيت فجأة البائع الذي كنت أهم بالذهاب إليه و توجهت نحو البائع الشاب.. “تبيع ولا تشري” قال فجأة، سألته بكم الأورو؟، فأجاب ب 14،85، يعني 148،5 دينار مقابل واحد أورو.

تنحينا جانبا من الطريق لننهي بيعنا. إستخرج هاتفته النقال من نوع نوكيا، هاتف أسود قديم الطراز و راح يجري عملية حسابية بعد أن أخبرته بالمبلغ الذي أنوي صرفه. ثم أظهر لي من خلال هاتفه القيمة الإجمالية للمبلغ بالأورو ليناولني بعدها المال الذي تحسسته بيدي لأتاكد من أنه ليس مزورا .. نظر إلي مستغربا و أنا أحاول أن أرى من خلال الضوء ورقة المائة أورو قبل أن يقول “دوريجين يا خو.. راني هنا قاع متخافش، كامل يعرفوني”.

الشاب كان لطيفا، سأتحفظ عن ذكر إسمه. سألته بعض الأسئلة و هو يدس أوراق الألف دينار التي وضعتها في يده داخل جيب سترته.. ألا تخاف مثلا من السرقة أو الإعتداء؟.  لطالما تساءلت كيف لا يخشى باعة العملات الصعبة السرقة، على الرغم من أن ظني كان دوما أنهم يحملون معهم ما يحمون به أنفسهم، فهم في الأخير يحملون بأيديهم ثروة قد تغري أيا كان بأن يفكر في الاستيلاء عليها . لكنه أجابني بلكنته العاصمية قائلا “أنا ولد الحومة، منا قاع يعرفوني.. ماعندي لاه نخاف”.

شكرته في الأخير و أنا أنسحب من المصرف الكبير الذي يتخذ من الشارع مقرا له، مصرف مفتوح للجميع، لا أوراق, لا معاملات إدارية, لا بيروقراطية.. لا شيء. وحده المال ما يشترى و يباع.

في كامل التراب الجزائري تقريبا يوجد مثل هكذا مصرف، مصرف مفتوح لتداول العملة الصعبة. و وحده الشارع من يتحكم فيه و يخضعه لمنطقه. على الرغم من أن هنالك قوانين تضبط هذا الميدان و بالتأكيد ليس في الشارع، لكن تلك القوانين لا يعمل بها أحد. حتى الذين وضعوها،  فمن المفروض أن يكون صرف العملة الصعبة من خلال مكاتب صرف يحددها القانون الخاص بذلك، إلا أنه لا وجود لمكاتب صرف. ما يجعل الدولة التي تستكين في تنظيم هذا القطاع تتغاضى عن صرف العملات في السوق السوداء و تتكبد جراء ذلك خسائر بالملايير سنويا، كما يتكبد المواطن هو الآخر ارتفاع تكاليف صرف العملات الصعبة إن أخذنا بعين الإعتبار أن السعر الحقيقي للأورو مثلا لا يتعدى المائة دينار زيادة على تذبذبه مرات كثيرة إذ  يشهد مع الأزمة المالية تراجعا في بعض الأحيان بينما سعره في السوق الموازية يتعدى السعر الحقيقي بما يقارب الخمسين بالمائة و يشهد ارتفاعا مستمرا.