إن لم تكن قد قرأت الأجزاء الأربعة السابقة عن رحلة الأغواط تجدها هنا
نمنا في الفندق، نمنا قرر العين ( هل هذا هو الجمع الصحيح لقرير، في، نام قرير العين). صباحا، لم أفق باكرا.. ربما حوالي التاسعة.. كنا نخطط لأن نرحل، و لكن يونس و حميد و قاسم و حسام وزبير فاجأونا بأن عرضوا علينا أن يأخذونا في جولة سياحية في المدينة. و لم نرفض طبعا، و كيف نرفض؟، كنت متحمسا لذلك، خصوصا و أنني منذ دخولي إلى الأغواط و أنا أسمع عما بها من مناطق جميلة، فقلت أنها فكرة رائعة ولو أننا تأخرنا يوما عن موعد رجوعنا إلى العاصمة فذلك لا بأس به إن كان في سبيل أن نستكشف النزر اليسير من الأغواط.
بدأت جولتنا من فندق مرحبا، اتجهنا صوب باب قديم يطلق عليه باب الواد، يقع في الجهة الشمالية من مدينة الأغواط، كان في القديم بوابة دخول إليها. ومنه تقدمنا نحو سور مرتفع عن الأرض يقسم مدينة الأغواط لقسمين يشكل أحدهما القسم الحديث منها بينما يشكل الآخر القسم القديم. السور مرتفع عن الأرض ومنه يمكن رؤية كلا القسمين، بني السور في فترة ما من القرن الثامن عشر ليقي المدينة من هجمات الغزاة، و قد شكل فيما بعد جدارا فعالا ضد الغزو الفرنسي.
تمشينا على طول السور و نحن نرقب من هنا وهناك مناظر جميلة للمدينة, يختلط لديك الإحساس ما بين الماضي و الحاضر.. تفاعلات نفسية على الرغم من كونها من غير ذي معنى موحد إلا أنها تشعرك بالراحة، ونحن نسير هنا و هناك نلتقط الصور وصلنا لما يشبه ضريح ولي صالح. و لم يكن ما وقفنا عليه بضريح و إنما كما قيل لي دار لها رمزية خاصة عند البعض تنتسب لإحدى الطرق الصوفية ، وجدنا عند عتبة تلك الدار اثنين أو ثلاثة من الرجال يتلون ما لم نسمعه إن كان أدعية أم قرآن. تركناهم في روحانيتهم و أكملنا مسيرنا من على الحائط..
مررنا بخرائب أثرية جميلة قبل أن نصل و نحن نبتعد عن السور قليلا نحو جهة المدينة الحديثة إلى حيٍ ذي شوارع ضيقة بعضها يتشكل في مدخله أقواس مبنية كتلك الموجودة بغرداية أو ببوسعادة. أما تلك الشوارع الضيقة فهي تشبه إلى حد ما قصبة العاصمة.. لكن هنالك كانت قصبة بطابع صحراوي.. تأملٌ يحيلك على روحانية المكان و قداسته… تركنا بعضاً من ذاكرتنا هناك و انحدرنا في ممشى لغاية وصولنا لساحة عامة، ما يحيط بها من منازل دللّت بوضوح هندستها العمرانية على أنها من تصميم أنامل فرنسية. حميد، الصديق الذي كان يرافقنا أخبرني أن بداية أحد أفلام المخرج الكبير محمد الأخضر حمينا صورت بالمكان، و لم أعرف أيا منها هو ذلك الفيلم.
وصلنا أخيرا إلى مسجد عتيق كنت سمعت عنه الكثير بعد أن نزلنا ها هناك، يسمى المسجد الجامع الكبير، لكنه يعرف بمسجد الصفاح، و له قصة جميلة سمعتها من حسام، و أنا أستسمحكم أن أتركها لنفسي لأني نسيت بعض أجزائها و أخاف لو ذكرتها أن أغفل عن بعض جوانبها أو أزيد وهو ما لن أبتغيه لذلك المعلم الجميل و لا لنفسي. المهم أن الجامع يقع في ارتفاع عن ما عداه من المنازل و لا يرتفع عنه سوى قلعة مشوهة المنظر بناها الفرنسيون في أعلى تلة تقابله. بدا المسجد في حلة زاهية و نحن نستكشفه، هندسته العمرانية الإسلامية و صومعته التي تعلو في السماء بطولها و تعلو و تعلو كلما نطق المؤذن الله أكبر للصلاة.. هناك بجنبه كذلك جامع صغير بدا لي أنه مبني بالجير اسمه الجامع العتيق و هو من أقدم مساجد الأغواط، جامع يحمل و أخوه الذي بجنبه خيرا لا شك يعم المدينة بأكملها.
ثم تلك القلعة الفرنسية التي سبق و ذكرتها، و لم أجد أنها تحمل مميزات عدا عن كونها بنيت على ارتفاع فوق المدينة و في غالب الظن بنيت هناك لتكون مركز مراقبة، حاولنا دخولها مع اصرار يونس على فعل ذلك، لكننا لم نفلح سوى في الدخول إلى محيطها و مراقبة الأغواط من فوق.
السور لا ينتهي إلى في مكان بعيد، و نحن نصل إلى الطريق الذي يفرق ما بين جهتي المدينة القديم و الحديث توقفنا و التقطنا بعض الصور، أخبرني حسام عن بعض العادات التي لازال البعض من سكان الجهة القديمة يحافظون عليها، ومن بين تلك العادات عادة تسمى الضواقة أو الذواقة كنت تكلمت عنها هنا.
عدنا إلى وسط المدينة و فيما كان يبدو أن الجولة انتهت تفاجأنا بأنها بدأت للتو!. كان علينا أن نأخذ معنا تذكارات من الأغواط، لذلك ارتأى الإخوة أن نزور المحلات التي تبيع الهدايا التذكارية و جميل أنّا فعلنا، لأنه مع فعلنا ذاك اكتشفت شيئا جميلا ربما قد تكتشفونه معي إن لم تكونوا قد زرتم الأغواط سابقا، و هو أنه من هذه المدينة ظهر ما يعرف بفن الرسم بالرمل و الذي انتشر إلى خارج الحدود. زرنا محلا تصادف أن صاحبه أحد الذين يتقنون هذا الفن، بعد أن عرف أننا من السياح أو شيء من هذا القبيل أدخلنا ورشته الخاصة التي يقوم فيها بعمل لوحات فنية جميلة و الرسم على تشكيلات مختلفة من الأواني الزجاجية و غيرها. حصلت منه على تذكار خاص و هو عبارة عن حاملة أقلام توضع على المكاتب (لا أعرف أن لي مكتبا!) لكن التحفة أعجبتني بما تحمله من رسوم لجمال. كذلك فعل الأصدقاء الذين حصل كلٌ منهم على تذكاره الخاصة.. و من هنا، من ذلك المحل عرفنا أن هناك معرضا فنيا خاصا بفن الرسم بالرمل بإحدى المراكز التي تهتم بالتراث و الصناعات التقليدية، فما كان علينا إلا أن قررنا زيارته.
ولجنا المعرض الذي كان يقام في مبنى بثلاث طوابق، و في كل طابق صالتان أو ثلاث مخصصتان لفنان أو اثنين يعرض فيهما أعماله، و لن تصدقوا الإبداع الذي وقفنا عليه في أعمال هؤلاء الفنانين، لوحات فنية رسمت بالرمل.. و الرمل فقط. تبعثرنا هنا و هناك في كل الطوابق، ما أحزنني أنني لم أستطع أن أشتر أي لوحة بسبب ماكان أصاب جيبي من شلل، في البدء كنا نتعرف على هذا الفنان و ذاك، قبل أن ينتبه أحد من يديرون المكان لوجودنا، حيث أنّا دخلنا كالنحل لذلك المكان الذي كان شبه فارغ إلا من بعض المُنضمين، عندها قام باخبار مسؤوله الذي جمعنا ليعرفنا على ما تبقى من المعرض قبل أن يأتي مدير المركز الذي رحب بنا و كل من كانوا هناك ترحابا يدلل على كرم الأغواطيين، التقطنا صورا جماعية و خرجنا من هناك بابتسامة عريضة تأمل العودة يوما.
بعد جولتنا تلك عدنا إلى الفندق، و من هناك بقينا بعض الوقت قبل أن نحمل متاعنا و نتجه للمكان الذي حططنا به أقدامنا لأول مرة نزلنا هناك . كانت عقارب الساعة تشير إلى الرابعة مساءا، المحطة كانت مليئة بالمسافرين، تساءلت في داخلي إن كانوا يحملون نفس الشعور.. هل أسرتهم الأغواط يا ترى؟. لمسات من الحزن طبعتنا ونحن ننسحب بحب من هناك، كان في وداعنا قاسم و زبير.. التممنا في الحافلة مودعين الأغواط و أهلها الذين لايكفون عن الابتسام، الذين أغدقوا علينا بالكرم و المحبة، آملين في حجة أخرى لذلك المكان المقدس يوما من الأيام.
المزيد من الصور عن رحلة الأغواط على موقع فليكر.
على الهامش: سأجمع مذكراتي التي كتبتها عن رحلتي إلى الأغواط في كتيب صغير أنشره على النت و أضعه هنا للتحميل لمن يود قراءته و ذلك حتى يسهل الإطلاع عليه.