لا يزال غفور على عادته السيئة بتوريثي تركته الضخمة من الديون كلما حل بمقهى “الحاج السراق”. من اسم الأخير لابد يتكهن الواحد بمعنى أن يكون لك دين لدى صاحب مقهى يعرف كيف ينتشل منك الدورو انتشالا وهو لايزال أخضر لم ينضج بعد في جيبك، رغم طيبته طبعا وقهقهته التي تصل عنان كل أذن بمقهاه وتجعل كرشه المتدلي نصف متر أمامه يتأرجح كأنه يبغي تحررا منه حين يطلق غفور نكتة من نكاته المسروقة من مسرحيات عادل إمام.
لا أطلب سوى كأس قهوة لا أرتشف منه سوى رشفتين اثنتين، أحب أن تكون القهوة حاضرة عندما أكتب شيئا أو أقرأ، أو فقط حين استرجع في خيالي صورة لفتاة ما التصقت بمخيلتي من دون أن تتزحزح تترك المجال لأخريات يشغلن بالي في وقتهن.
أحضر للمقهى باكرا، بعد العمل مباشرة، يكون أول ما أرمي عليه ثقل التعب المضني الذي تخر معه قواي.. وحده القهوجي “يهنيني” من مشقة أن أطلب منه خدمة عمل قهوة قد يطول استقبالها إن لم أفعل ذلك بنفسي..
غارق فيما لا أعرف أين أو ماذا.. استمع لأغنية دخلت مجال إدماني مؤخرا لمحمد فؤاد “هاودعك آخر وداع”.. أحلم بالكتابة، بالهجرة، بالقراءة وبزيارة الأهل هناك أين تحضّر أمي في هذه الأمسية قهوتها ذي رائحة البن المحمص على عتبة باب المطبخ حيث تجلس متربعة رجلا على رجل تنفث بفاها على دخان يصعد تناثرا وسط حوش بيتنا القديم.. اشتاق إليها بشدة.
“هاودعك آخر وداع” …
في انتظار غفور يأتيني ناكسا رأسه المفلطح بسيجارته التي تشكلت جزءا من شفتيه لاتغادر ما بينهما.. سأقول وسيسمع وسأسمع حين يقول، ونقول مع بعض فلا يسمع أحدنا شيئا، ثم ننسى بعد ذلك كل شيء، متناقلين الضجر الذي نلده يوميا بأرحام لا تكاد تفرغ حتى تمتلأ مللا بأفكارنا السوداء من جديد… أرقبه يحدثني بشهية شاذ سادي عن فتيات رآهن وكيف يرغب في أكل أطرافهن أكلا بعد أن يمارس عليهن ساديته في تعذيبهن بسوط عصا شجرة الزيتون.. لا ينفك يطلق آهاته مع تصاعد غيمة سوداء أمام وجهه ينفثها من رءتيه اللتين اسودتا من التدخين …
أسمع له مشفقا عليه وعلى حالي، يغريني بأحلامه السفر للخليج والعمل في صحيفة بدبي أو قطر، أين سيتقاضى في الشهر ثلاثون مليون سنتيم بعد أن يوفروا له سكنا وسيارة مرسديس بقرض إسلامي لن يظطر معه لدفع الفوائد الربوية التي من أجلها لا يريد أن يخاطر بعمل مشروع “لونساج” هنا.. هناك أين سيتزوج من خليجية سمراء لونها كبيرتان عينيها، محبجة بحجاب شرعي كامل، وعن ابنه الذي سيسميه باسمي، أو هكذا يفترض إن رضيت بذاك زوجته الخليجية..
هاودعك آخر وداع
يحضر غفور، وتحضر معه مسرحية الزعيم والواد سيد شغال ومدرسة المشاغبين، وجمهور متكون من الحاج سراق ببطن منتفخة تنبئ عن انفجار قريب سيحدث في أمعائه إن لم يتوقف عن ضحكه الهستيري، آملا أن يواصل صاحب الكرش المتدلي قهقهته ليسنى ما عليه من مال لديه أو ما ورثني إياه على الأقل… يحكي واسمع، يسمع حين أحكي ونحكي كلانا فلا أحد يسمع وننسى.. ثم نعود مع بعض نسمع لمحمد فؤاد.. آملين في وداع يوما من الأيام.