“هاودعك آخر وداع”

مقهى

لا يزال غفور على عادته السيئة بتوريثي تركته الضخمة من الديون كلما حل بمقهى “الحاج السراق”. من اسم الأخير لابد يتكهن الواحد بمعنى أن يكون لك دين لدى صاحب مقهى يعرف كيف ينتشل منك الدورو انتشالا وهو لايزال أخضر لم ينضج بعد في جيبك، رغم طيبته طبعا وقهقهته التي تصل عنان كل أذن بمقهاه وتجعل كرشه المتدلي نصف متر أمامه يتأرجح كأنه يبغي تحررا منه حين يطلق غفور نكتة من نكاته المسروقة من مسرحيات عادل إمام.
لا أطلب سوى كأس قهوة لا أرتشف منه سوى رشفتين اثنتين، أحب أن تكون القهوة حاضرة عندما أكتب شيئا أو أقرأ، أو فقط حين استرجع في خيالي صورة لفتاة ما التصقت بمخيلتي من دون أن تتزحزح تترك المجال لأخريات يشغلن بالي في وقتهن.
أحضر للمقهى باكرا، بعد العمل مباشرة، يكون أول ما أرمي عليه ثقل التعب المضني الذي تخر معه قواي.. وحده القهوجي “يهنيني” من مشقة أن أطلب منه خدمة عمل قهوة قد يطول استقبالها إن لم أفعل ذلك بنفسي..
غارق فيما لا أعرف أين أو ماذا.. استمع لأغنية دخلت مجال إدماني مؤخرا لمحمد فؤاد “هاودعك آخر وداع”.. أحلم بالكتابة، بالهجرة، بالقراءة وبزيارة الأهل هناك أين تحضّر أمي في هذه الأمسية قهوتها ذي رائحة البن المحمص على عتبة باب المطبخ حيث تجلس متربعة رجلا على رجل تنفث بفاها على دخان يصعد تناثرا وسط حوش بيتنا القديم.. اشتاق إليها بشدة.

“هاودعك آخر وداع” …

في انتظار غفور يأتيني ناكسا رأسه المفلطح بسيجارته التي تشكلت جزءا من شفتيه لاتغادر ما بينهما.. سأقول وسيسمع وسأسمع حين يقول، ونقول مع بعض فلا يسمع أحدنا شيئا، ثم ننسى بعد ذلك كل شيء، متناقلين الضجر الذي نلده يوميا بأرحام لا تكاد تفرغ حتى تمتلأ مللا بأفكارنا السوداء من جديد… أرقبه يحدثني بشهية شاذ سادي عن فتيات رآهن وكيف يرغب في أكل أطرافهن أكلا بعد أن يمارس عليهن ساديته في تعذيبهن بسوط عصا شجرة الزيتون.. لا ينفك يطلق آهاته مع تصاعد غيمة سوداء أمام وجهه ينفثها من رءتيه اللتين اسودتا من التدخين …

أسمع له مشفقا عليه وعلى حالي، يغريني بأحلامه السفر للخليج والعمل في صحيفة بدبي أو قطر، أين سيتقاضى في الشهر ثلاثون مليون سنتيم بعد أن يوفروا له سكنا وسيارة مرسديس بقرض إسلامي لن يظطر معه لدفع الفوائد الربوية التي من أجلها لا يريد أن يخاطر بعمل مشروع “لونساج” هنا.. هناك أين سيتزوج من خليجية سمراء لونها كبيرتان عينيها، محبجة بحجاب شرعي كامل، وعن ابنه الذي سيسميه باسمي، أو هكذا يفترض إن رضيت بذاك زوجته الخليجية..
هاودعك آخر وداع
يحضر غفور، وتحضر معه مسرحية الزعيم والواد سيد شغال ومدرسة المشاغبين، وجمهور متكون من الحاج سراق ببطن منتفخة تنبئ عن انفجار قريب سيحدث في أمعائه إن لم يتوقف عن ضحكه الهستيري،  آملا أن يواصل صاحب الكرش المتدلي قهقهته ليسنى ما عليه من مال لديه أو ما ورثني إياه على الأقل… يحكي واسمع، يسمع حين أحكي ونحكي كلانا فلا أحد يسمع وننسى.. ثم نعود مع بعض نسمع لمحمد فؤاد.. آملين في وداع يوما من الأيام.

فتاة تشبهك

1
هناك فتاة تشبهك في العمل، إلى حد ما.. تنطبع على وجهها نفس ضحكتك ونفس قسمات وجهك عندما تنظرين إلي، هي لم تنظر إلي طويلا ولا أنا فعلت ذلك أيضا لكن من انتباهي لها بين الحين والآخر أشعر وكأنها أنت، لا أدري قد يكون هذا من جراء اشتياقي الشديد لك، أو أن خيالك الذي يرتسم في رأسي ماعاد يرضيه أن يبقى حبيس تصوراتي عنك فأبى إلا أن ينزل في جسد آخر. تشبهك حتى في تصرفاتها وضحها الخفيف وحروف كلماتها التي تخرج متسارعة من فاها أحيانا بغير إدراك لمعنى ما تريد قوله. أشتهي أن أسمع صوتها بقدر اشتهائي لأن أدقق في تفاصيل وجهك الذي يغيب عن عيناي منذ زمن.. لكنها ليست أنت ولن تكون، أي امرأة لن تكون أنت.
ما أعرفه أنك لن تغاري منها، فبقدر ما أنا موغل في اشتهائي لك بقدر ما تريدين أن تحرريني منك، أن تبعثيني إلى عالم الحرية الذي تتصورينه بشكل أعجز عن فهمه، هل أخبرتك سابقا أن تفلسفي في الحرية قد خفت وأني ما عدت أكترث أن أتحرر من كل ما يثقل كاهل عقلي. بت أجد راحة إن صح القول أن تكوني قيدي الذي يرفع عني ملامة أن أحارب طواحين الهواء كما فعل الكيشوت قبلا..
وأنا أدندن في رأسي كلماتك  عن الحرية وكيف أنك لا تحبين الارتباط فقط كي لا تاسري أحدهم  أتصور أستاذة الفلسفة في آخر سنة لي في الثانوية  وهي تحكي لنا عن أفلاطون ومثله العليا التي آمن بها حتى انفصل بها عما عداه من البشر، هل أنت أفلاطونة زمانك، أم أنك أفلاطونتي أنا وحدي الذي أهيم بك في كل تفصيل صغير من تفاصيل وجودك في هذا العالم؟.
2
مؤخرا فقط ارتدت نفس المقهى الذي كان أول وآخر ما ارتدنا من صالونات بالعاصمة، الخادم الذي ناولني كأس قهوة الاكسبريسو خاصتي كان أن أحضر معه ثلاثة أكياس سكر صغيرة تشبه تماما تلك التي ناولنا إياها قبل أشهر، بلونها الوردي والحروف البيضاء المطبوعة على جنبها، قد لا تصدقين أني أحسست عندها أن الزمن توقف عن تسارعه لأن ما كان بجيب حقيبتي هو نفسه كيس السكر الصغير الذي أودعته في يدي بعد أن أعجبك يومذاك. أخرجته ورحت أنظر إليه وقد ترهل.. نظرت إليه بحزن، تذكرتك وبقيت مدة أحدق فيه، مررت أصابعي على تشوهات حدثت به، كأنما أردت أن أعتذر، بقاؤه في الحقيبة كل هذا الوقت كان يحملني فوق طاقتي على التذكر. تركته هناك وخرجت.. لن يفرق الخادم أيهما كيس قد قد أحضره، سيمرر منشفته ماحيا إياه من هناك.. ناقلا خيبته لقلبي.

3

عندما هاتفتني قبل أيام، انفصلت عني أنا الذي يهيم بك، سأرهقك أعرف لو رحت معددا لك عدد الخلايا بجسدي والمواطؤ بروحي التي تشتغل على اشتاهائك فقط، كنت أنا الآخر بحب لطيف وبسمة جميلة وذكريات عن الزمن الجميل تلك التي لا تحمل عنفا يمتد إلى ماوراء العاطفة. سأرهقك بي يا صغيرتي ويحزنني أن أبدد البسمات التي تتوالد على وجهك من خاطرك علي.. سأكون أنا من دوني.
أكره أن أبدو عاجزا، لست كذلك. لا يتوانى غفور في أن يصف سكوني في مرات عديدة ونحن بالمقهى مضجرين بأجواء العاصمة مساءً بالحزن القاتل الذي يقود إلى الموت البطيئ.. أكثر ما أحصل عليه من وصف “ظالم”، حتى قهقهتي من وصفه لا ترضي إحساسه ذاك بأني عكس ما قال، لكني كذلك.. أسأل نفسي بغرابة كيف أكون كذلك وأنت تسكنينني.. هل يعقل أن تتداخلي مع الحزن؟ أو أن يشوب ذاكرتي يأس وأنت في جميع ألبوماتها؟؟.

كالعادة، أنا بخير

سيبدو مبتذلا جدا أن أخبرك كم أنني صرت متعبا، لكن سأصر رغم ذلك على القول أنني بخير، بالطبع ستعرفين أن هناك شيئا ما ناقصا، وأن ضحكتي التي أطلقها عند أول حديث بيننا تنم عن غرابة لا يصلح معها اجتهادي في إقناعك بالخير الذي أصبته مؤخرا. أي خير قد تتوقعينه يحصل معي وأنت بعيدة. ستدركين ذلك بلا ريب، لذلك ستعرفين أنني تعبان وأحتاج على الأقل أسبوعا كاملا من الراحة والنوم وتناول طعام صحي والابتعاد عن شرب القهوة ومشاهدة التلفزيون والغرق حد التخمة في العمل. والأهم من كل ذلك.. رؤيتك وتناول فطور شهي معك على بكرة الصبح.

لن أطلب منك أن تأتي، لا أفعل ذلك وأكره جدا إشغالك بأمري، وربما -كما أحس بذلك- تشعرين ببعض الحسرة أنك لا تستطيعين أن تكوني بجانبي وأنك تعرفين كم أنني أود لو تفعلي، لكنني لا أجرؤ أن أطلب منك ذلك. كيف في رأيك تحلو لي الحياة وأنا معلق مع طقوس غريبة أمارسها يوميا بداعي الحياة، النهوض باكرا، الذهاب إلى العمل، أكل البيتزا عند منتصف النهار مع الكثير من الكاتشاب، شرب القهوة، الخروج مساءا مصابا بصداع في رأسي، تحمل غباء قابضي الحافلات، أشعر بالشفقة، لا أعرف على من أشفق. لكن بالأحرى على نفسي.. طقوسي الروتينية في العيش تمتد أمامي إلى ما لانهاية، سأتركها يوم في محطة ما وأغادر بدونها، لكن في ذلك الوقت بالضبط أحتاجك إلى جانبي، ستكون لي كل الشجاعة في المغادرة، في أن الحق بآخر طائرة تغادر، سنشتري تذاكر الرحلة من دون عودة. سنخسر آخر أموالنا ونتشرد كما كنت دوما تحبين أن نفعل، نمارس إنسانتينا كما هو مقدر لها أن تمارس، بعيدا عن الحبس المقيت الذي تعيش بداخله الآن. سنتمرد قليلا، قليلا وفقط ولنرى إن كان بالإمكان أن نخدع القدر، ونضحك عليه قليلا مثلما يفعل هو بنا يوميا.

تعرفين أنني لا أحب الأسئلة الطقوسية، لكن تصرين أن تسأليني دوما عن حالي، كيف هو؟، وكيف مقدر له أن يكون؟. تسأليني من دون حتى أن تبثي لي أي إشارة إلى انك ستكونين يوما ما معي، ألا تدركين أن حالي الذي تتمنينه أن يكون بخير، يعتمد عليك أنت في أن يكون كذلك. تعرفين هذا، لكنني لا أحب أن  “أكسر لك دماغك” بهذه الأمور، ليس لأنك تعرفين بل لأنني أحلم بعيش غير طقوسي.. أن أسافر للصحراء الشاسعة وأتوضا برمالها وأصلي جنوبا، وأقطع بعضها شسوعا فأشعر بعطش شديد وفي جيبي زجاجة بيره، أحلل لنفسي شربها وأرتوي لأنني مظطر لفعل ذلك.

أعيش يوميا بأحلامي، الوحيدة التي بقيت تصلح لي وسط هذا التراكم الهائل للروتين. أتمنى فقط أن أنهض أن يسعفني الحظ وبعض تواطؤ القدر يوما ناشدا الابتعاد، الابتعاد إلى ما لانهاية، سنرحل معا، ستفتشين في حقيبتي إن كنت أحمل بها أيا من قوائمي التي تعتبرينها سخيفة، تنظرين إليها ببلاهة وتمزقينها وأنا أضحك بشدة من غباوتي، أن تفعلي الشيء الذي لم أستطع فعله لحد الآن، أن أمزقني من نفسي وأتحرر من وجودي الذي يثقل يوما بعد يوم.

في الأخير أنا بخير، رغم كل ما قلته فوق.. وسأكون بخير، هذا إن مازلت على وعدك بالرجوع يوما ما، غدا مجددا سأبدأ بخوض معارك جديدة مع طقوسي، وكما كل يوم، سأحاول بشدة أن أربح بعضها، فقط كي لا أكذب عندما تسأليني كيف حالك؟.

ضِحْكة!

لم تكن لمى تضحك وفقط، كانت تضحك بشدة كذلك وبطريقة غريبة لطالما جلبت لها استهجان من حولها. عندما تعرفت عليها أول مرة كنت كغالبية من يفعلون ذلك عند أول لقاء بها، يشعرون ببعض الإشمئزاز من تلك الضحكة الهستيرية التي تشبه في نغمها انزلاق عجلة قطار على سكة حديدية أثناء توقفه بصعوبة.
كم أمهلتها من وقت حتى تعودت عليها وبت من غير الممكن أن أراها من دون تلك الضحكة؟.. طويلا جدا. اليوم أجلس بجانبها وهي في قمة هدوئها. أسر لها برغبتي الكبيرة في أن أعلم سر ضحكتها تلك، ومن دون مقدمات، تطلقها عاليا في الفضاء وهي تنظر إلي ولا تكاد تتوقف عن الضحك الهستيري الذي يصيبها ما إن تسمع أي شيء غريب عنها. تنظر إلي طويلا بعينيها اللتان تبدوان في أيما سكون، مع فاها الذي يطلق من عمقه جلبة غريبة حوله.. منظر غريب.

أشاهدها ولا أنفك أطلق ضحكة طويلة معها.. أضحك وفقط.. مستسلما للّحظة، وضاربا عرض الحائط كل التفسيرات الغريبة التي من الممكن أن أصفها بها.

فتاتي التي كنتِ

نفتحه على ضحكة ونعود.. خاتمين إياه على ضحكة، حديثنا الطويل المفعم بالحنية كان يخلط بداخلنا كل المشاعر، أترقب عينيك بصمت وسعادة وأنت تلوِحين بيديك في الهواء غير قادرة على أن تتكلمي وفقط.. تمارسين كل أنواع الحديث حتى ذلك الذي توجهينه إلي بعينيك وأنا مستغرق في الغرق فيهما طويلا. أنتبه إلى نفسي وأدخل معك في معمعة ثرثرة لا تكاد تنتهي أبدا، ربما كان ذلك دعوة منك إلى الاستمتاع بكل ثانية تمر، أن نتحدث ونتحدث ونتحدث، ألا نتوقف حتى لنشغل أنفسنا بالتفكير في ما قد يصير إليه حالنا في المستقبل القريب… اليوم أخمن أنك كنت تفعلين ذلك لعلمك ربما أنه لن يكون هناك مستقبل، حتى ذلك القريب منه.

يغريني التساؤل عما كنا سنصير إليه معا، كان كل شيء في مكانه، كل الشروط التي تجمع بين اثنين لكي يجابها معا تحولات الزمن. لكن مع  إغراء السؤال ذاك خيبة صغيرة عن أنه ربما رغم التناسق الذي كان بيننا لم يحدث أن أكملنا معا أشهر قليلة حتى افترقنا، لحظة فعلنا ذلك كان كل شيء سريعا، سريع بسرعة الأحاديث التي كنا نتناولها في أيامنا، سرعة شفاهنا وهي تبعثر الحروف هنا وهناك، وسرعة نظراتنا لبعضنا البعض. وسرعة الأفكار التي تخطر ببالنا حينها. استغرقُ اليوم في التفكير طويلا ربما وببعض الحزن في ما كان يجمعنا، ربما اليوم فقط أجد وقتا كي أفكر.. كم كنا رائعين، مستغربا في ذات الوقت ما قد يكون على لسان إنسان آخر لم يكن يرى بيننا غير التكامل والانجذاب.. لماذا حدث وافترقنا؟.

وأنا أعود لتلك الأيام التي جمعتني وإياك، وبالضبط اليوم الأول الذي رأيتك فيه، لا أصدق كم أنني من الغباء بحيث لم أقف موقفا حازما من علاقتنا، استدرجتني كما كنت أريد أن افعل معك، في الغالب هكذا هن الفتيات الجميلات يسعين لنيل الكثير من الاهتمام، لم يكن هذا دافعك حين اقتحمت علي خلوتي في ذلك الصباح الصيفي، حينها لم أعبا بما كان ينتظرني معك، حين جلست بجانبي ورحت تتحدثين عما كنت تريدينه مني، أن تتعلمي الكتابة. تلك التي أريد منذ ولدت أن أحاولها، أن أرضى عنها بحيث تشكل ذائقة لمن يتناولها بالقراءة، لم أدرك أنها كذلك عند البعض.. عندك أنت، أتساءل إن كنت قد قرأت لي شيئا قبل أن تطلبي مني أن أعلمك إياها، لكن حتى وإن لم تفعلي، حتى ولو كنت أفضل مني أسلوبا في الكتابة كنت سأرضى بأن أعلمك أو أتعلم منك، المهم هو أن يقودني ذلك إلى انهض صباحا منتشيا برؤيتك والحديث إليك.
هل تصدقين ذلك، ما كنت لأطمع في غير أن استمع إليك وأحمل منك جميع الثرثرة الجميلة التي كانت تنساب إلى روحي مبددة الشحوب في أعمق زواياها ذلك الوقت، لكن بعدها أصبح رونقك يسيطر علي، أصبح خيالي الذي يعجز أن يتقدم خطوة للأمام، يتقدم بسنوات، وذلك المنزل الذي شيدته على طرف البحر، وأنا التقط لك صورا بفستانك الزهري وأنت تجرين الهوينى حافية القدمين على رمال الشاطئ، تنظرين خلفك وتبتسمين لي من بعيد وعينيك تتلألآن بسعادة غامرة تغمرني وإياك.

في ذلك الصباح حين ناديتني باسمي ولم أسمعك، ناديتني مرة واثنان وفي الثالثة تلقفت أذناي صوتك العذب بحروف تشكل اسما  كان لي، عاتبتني. أنا الذي أصر على العيش بحرية مطلقة رافضا أن يعاتبني أيهم على أي شيء، أعجبني عتابك، في غمرة اشتياقي الشديد لك اليوم، اشتاق إليه بشدة هو الآخر. كان عتابك الجميل مدخلا لنفض كل التكلفة التي تنشا بين اثنين وتبقى بعض المرات طويلا ولا تزول، انهارت مع شفتيك الرقيقتين اللتان زممتهما لبعض وحاجبيك اللذين انخفضا قليلا راسمين وجها بريئا على شفا حزن بريئ، هل كان يكفي تلك اللحظة أن أضحي بسعادتي برؤيتك عندها وسعادتي التي عرفتك بها أياما طويلة كي لا تحزني.. كنت لأضحي بكل شيء من أجل أن تعود شفتيك وتنفصلا مبينتان عن بياض أسنانك.

لا أعرف إن كنت أحبك، أتساءل بصدق إن كنت أفعل ذلك؟، وعن ماذا بالضبط كنت سأحبك؟. العاشقون لا يعرفون دوما سبب حبهم للطرف الآخر، يغوصون دوما في أجوبة فلسفية عن الحب، معك أنت لا أعرف إن كنت أحبك مثلما يفعلون. كل ما أعرفه ربما أنني أصبحت بك على شاكلة أن أحسني فعلا، أن لا أقف دوما عند البدايات وأن لا تشغلني النهايات، وأن لا أفكر في صمت وانزعج في صمت وأبكي في صمت، معك كل مشاعري كانت تتحدت بصخب وتصرخ عاليا. أحسستني كائنا بفضلك.. هل هذا حب، أو شيء من الحب؟. معك كان يعني لي الأمر  أن لا يندلع سؤال وجودي الذي أرقني مذ وعيتني على هذه الأرض من أعماق روحي شاغلا إياي عن كل شيء، كان يعني أن لا أحزن عند سقوط المطر، ذلك الذي يجعل حياتي سوداء بقدر سواد الغيوم التي تتراكم سماء. كان يعني أن لا أبقى طويلا في سريري وأنا أفتح عيني صباحا على يوم جديد مشغولا بفكرة متى ينتهي ذلك اليوم لأعود لسريري من جديد.. فهل يعني هذا أن ما أحمله لك كان حبا؟ !.

أتذكرك، في كل لحظة وثانية تمر.. لم يحدث فراقك لي حزنا كالذي كنت أتوقعه، كذاك الذي يبدأ جرحا غائرا ولا ينتهي إلا بنسيان عظيم، وكأنك وضعت بلسما على جرحي الذي كان سيكون بعد رحيلك.. لتبقين خالدة من دون أن ترحلي إلى الأبد. أشتاق إليك، أضع قلمي جانبا واستسلم للذة مشاعري التي تتدفق في هذه اللحظة بالذات، اللحظة التي لا أتمنى معها سوى  لو كنت هاهنا بجانبي وتصرخين في وجهي بلطافة.. “احكي” لا أريد أن أفقد وجودك  للحظة.

دوبرانوك

دوبرانوك..

 أرسلت لها كمحاولة أخيرة لإثارة انتباهها، و على الرغم من أني تمنيت لها ليلة سعيدة وهي ما تعنيه الدوبرانوك، إلا أن الفتاة في الطرف الآخر خلف الشاشة و التي تظهر في الصور التي نشرتها على حائطها بلون شعرها الأشقر و عينيها الخضراوين و يطولها الذي يبلغ مددا في السماء، لم  تقل إلا شيئا واحدا و وحيدا فقط عن نفسها مذ بدأت أبعث لها ما يمليه علي مترجم غوغل من كلمات تلك اللغة الغريبة. لم تقل سوى أنها بولندية.
لم تبد أي اهتمام، لم ترد وليلتك أسعد ربما I szczęśliwa noc  و تنطق هكذا اشتيشنيفانوتس. ولا حتى شكرتني على لطفي، الذي يبدو سمجا،  لكني تقبلت ذلك.. لم أشعر بأي انزعاج و قررت أن أوقف أنا الآخر إزعاجي كذلك بعدما جربت حظي في أن أرسل إليها أزيد من عشرين رسالة، على الأقل لفترة معينة بعد محاولتي الأخيرة. ذهبت للنوم،  أشعرتني دوبرانوك بالنعاس حقا.. لكن السؤال الذي لم يغادر مخيلتي و الذي كان يبعث في أطرافي سعادة غامرة.. لماذا أضافتني كصديق؟.. نمت سعيدا ليلتها على الرغم من أنها لم ترد، نمت و أنا متيقن من أنها ستجيب على سؤالي في الغد.

صباحا حين افتتحت يومي بإطلالتي على الفايسبوك، وجدت أن صديقا واحدا قد نقص. لم أطل البحث إذ اكتشفت أن كل ما كتبته في الأمس و ختمته ب دوبرانوك.. كان قد اختفى !.

لحم الفراخ

رائحة اللحم لم ترسم طريقا لأنفه الصغير منذ مدة طويلة،آخر مرة فعلت ذلك كانت قبل أشهر.. في تلك المرة بقت مجرد رائحة. القطعة التي وضعت في طبقه رفض بشدة أن تنزل إلى بطنه، كان يرى فرخ أمه الصغير الذي نحر السكين عنقه ينظر إليه بعينيه البريئتين.

لا يعرف لليوم علاقة الفرخ باللحم!، صحيح أنه كان يطارده كلما رآه يقترب من الحبوب التي تنثرها جدته قبالة الشمس لتجف، لكنه لم يكن يتمنى أن يراه و قد نزع عنه عنقه و سلخ جلده سلخا.. رآه في أحلامه وكان ينظر إليه نظرة عتاب، أراد أن يستسمحه على مطاردته، الجدة كانت تفعل ذلك أيضا، لكنه بطريقة أو بأخرى علم أن الأمر لم يكن متعلقا بالمطاردة..

كان كلما يسأل أمه تتحسر هي الأخرى، لكن تتحسر فقط لكونه كان آخر فرخ تم انتشاله من الخم.

لكن السؤال الذي كان يقصده دوما و لم تشفع اي اجابة في أن تجيب عليه،  ماذا عن كونه أصبح لحما؟.

القرص “سي”

عندما رآها لأول مرة شعر بالندم.. فجأة اتجه للقرص السي ومنه  إلى الملف الذي يحمل اسم “خاص”.. ضغط عليه بالزر الأيمن للفأرة و رماه في زبالة الكمبيوتر..  لم يكن ينقصه سوى كيم كاردشيان تزاحمها من خلف الشاشة. كان يريد لعقله أن يصبح صافيا، في حقيقة الأمر لم يكن الصفاء الذي أراده نابعا من إرادته هو، كانت هي من جعلته كذلك، حتى و القرص “سي” به عجايب ما أفزته تكنولوجيا الويب.

بعد مدة قصيرة.. قصيرة جدا، و بعد أن تفجر سوء حظه في وجهه حين تقاربت بينهما المسافة، عاد باحثا من جديد عما يملأ عليه حرمانه.. فلم يجد سوى القرص “سي”.

كورني كاوكاو

حينما شاهده للمرة الأولى كان يلعب الكرة في الشارع، مر من أمامه يحمل جريدته اليومية التي اعتاد أن يقرأها في المقهى. قبل أن يسمع صوته الرقيق ..عمي، عمي… ما عليش تعطيني ذاك الجورنال؟..
تفاجأ لذلك الولد الصغير الذي يبلل العرق ثيابه و الذي ترك أصدقاءه يلعبون الكرة بينما لحقه ليطلب منه جريدته..

ناوله الجريدة بينما يداه تداعب شعره، قبل أن ينطلق الفتى فرحا.. كان عليه أن يأتي بنسختين، تمنى في نفسه، لكنه كان سعيدا..

في اليوم الثاني، نفس الموقف.. لكن هذه المرة لم يكن الفتى يلعب الكرة، كان يقف على طرف الطريق، حينما رآه قادما، اقترب منه.

عمي تعطيني جورنال؟.. ابتسم من هذه الجرأة التي تجعل طفلا صغيرا يرتبط بجريدة!.  بحب ناوله إياها و انصرف، عازما في المرة القادمة أن يشتري منها نسختين.

في اليوم الثالث، تكرر الموقف، صباحا حيث كان ذاهبا إلى المقهى محملا بعلبة سجائر و جريدة، استوقفه الفتى، و قبل أن يطلب منه شيئا، ناوله الجريدة, بينما كانت يده الأخرى تخفي نسخة منها خلف ظهره..

في ذلك المساء و بينما هو يتجول على الكورنيش لمح الفتى خلف طاولة صغيرة بينما مجموعة من الناس تلتم حوله، تقدم ليرى ما الذي يحدث.. شاهده خلف طاولة تحمل مجموعة من كورنيات الكاوكاو المغلفة بورق الجرائد.. نظر إلى الفتى بتعجب!.

نظر إليه الفتى.. عمي، كورني كاوكاو؟.

تْلَعْ

الملل يسري في الجو.. يكره الإنتظار. و ما يكرهه أكثر.. أنه لا يعرف بالضبط ما الذي ينتظره.. ينتظر أن ينتهي شيء ما ليبدأ الآخر.. هكذا اختزل سويعاته تلك التي يقضيها في المقهى.  يتوقف أمامه حيث لا تتجاوز خطواته عتبة القرية التي ولد فيها، و يعيش.

منذ أيام بدأ يزعجه ذلك التلفاز الذي وضعوه هناك في زاوية عالية حيث تبحلقت فيه كل العيون و صمتت كل الأفواه، لم يعد هناك من ضجيج.. كم كان يحب تلك القذارة التي تنطلق من الأجساد المتبعثرة في ساحة المقهى. لكن لم تعد هناك قذارة.. المذيعة الجميلة بالبلوزة الحمراء جذبت كل الأعين.. نظر إليهم مشفقا:

و كأنهم يفهمون في السياسية؟ منذ متى كان العالم يعنيهم؟؟.

في اليوم التالي تباطئت خطواته إلى المقهى.. الضجيج وحده من كان يخفف عليه رتابة أن يكون. لم يعد هناك من ضجيج!.

تابع عدم إكتراثه لذلك المخلوق الغريب الذي حل فجأة محل ما كان ينتظره..

في إحدى الليالي التي شاهد فيها كابوسا مرعبا حلق ذقنه، حمل عكازه و مضى.. منذ تلك الليلة  لم يره أحد. و لا أحد فهم أين اختفى فجأة، تْلَع.. تعليق صغير حشا المقهى بسبب ذلك الصندوق الموضوع في إحدى زواياه.. كم هم كثر أولئك البشر الذين يسكنون داخله!.

تْلع: تعني باللهجة الجزائرية اختفى فجأة