لقائي بزهرة

zohra drif

بينما أنا غارق في العمل  صباحا بالجريدة تلقيت بيانا ودعوة للقاء سيتم حول كتاب صدر حديثا، أخذت البيان الذي صدر عن وزارة الثقافة ورحت أقرأه، من عادتي أن أقرأ البيانات بسرعة من دون أن تثير انتباهي، فجميع ما قد يأتي بها يكون في العادة خبرا عن مهرجان فني أو فعالية ثقافية تشرف عليها الوزارة والتي تكون سبق وتم الإعلان عنها. لكن المثير في ذلك البيان هو صاحب ذلك الكتاب الذي سيتم حوله اللقاء والذي لم يكن مؤلفه سوى المرأة التي تظهر شابة في الصورة أعلاه.. الصورة التي التقطت لها في العام 1957.

دققت جيدا في البيان، كانت هي نفسها، زهرة ظريف بيطاط، مؤلفة كتاب جديد حول حرب التحرير.. تحرك شيء ما بداخلي واسمها يمر على عيني.. لم أتخيل أن ألتق هذه المرأة في يوم من الأيام، قد لا تصدقون أنني بكيت يوما حين شاهدت فيديو اعتقالها رفقة ياسف سعدي من قبل القوات الفرنسية بعد محاولة الفرنسيين وأد ثورة الفدائيين التي انطلقت في أزقة القصبة وشوارعها، كان ذلك قبل سنوات من الآن، أذكر أني شاهدت لأول مرة فيديو الإعتقال ذاك وأنا أحضر موضوعا حول “معركة الجزائر”، كنت أدرس حينها بالمتوسطي.. أعوام تمر لأشهد بعد ذلك لقاء تلك المرأة نفسها وجها لوجه  تلك التي بدا الفرنسيون وكأنهم حصلوا على غنيمة كبيرة حين اعتقالها.
من المؤكد أنها لا تعرفني، هي لا تفعل ذلك بالتأكيد!، لكنني أعرفها، أو أحسبني كذلك على الأقل، أن ترتبط بها مشاعري ولو قليلا، فذاك يعني أنني أعرفها بعض الشيء، خصوصا إن كانت تلك المشاعر قد تكونت في قلب طفل في الثالثة عشر من عمره.

كان اللقاء مبرمجا بعد يومين على الساعة الثانية والنصف بعد الزوال. بعد مرور اليومان، حملت معي كراستي وقلمي والمسجلة وتوجهت للقصبة، وبالضبط لقصر خداوج العميا، الفتاة ابنة الآغا التركي التي كانت أجمل ما تكون من النساء في عصرها حتى أصيبت بالعمى بسبب فرط رؤيتها لنفسها في المرآة،( أو هكذا تحكى الحكاية). كنت حاضرا هناك قبل حوالي عشرون دقيقة من بدء اللقاء، على طول الطريق، راودني شعور غريب لا أعرف له وصفا، وكأن شخصا قد عاد من الماضي السحيق ليحضر ها هنا روحا وجسدا، هكذا شعرت حينها. لم تكن تلك المرأة عادية أبدا عندي، من منا لم تأسره مشاعره وهو يشاهد فيلم “معركة الجزائر”؟، وهو يشاهد أولئك النسوة الجميلات اللواتي كن يختلطن بالفرنسيات في المقاهي والكباريهات والمطاعم وينسين حقائبهن الملأى بالقنابل قبل أن ينسحبن على وقع الموسيقا الصاخبة التي تملأ المكان قبل أن تعم التفجيرات وتتعالى التكبيرات هنا وهناك. أشك في أن أحدا كما نصف ذلك في لهجتنا المحلية “ما شوكش لحمو” وهو يرى عمر الصغير يدخل بين الأرجل لإغاظة الجنود الفرنسيين. مع كل تلك المشاعر الطاغية التي نحملها في قلوبنا لأولئك ولذلك العصر بالضبط، كان علي أن أقابل هذه المرأة التي كانت إحدى صانعات تلك المشاهد.. هل تتخيلون مقدار الشعور الذي حملته عندها؟؟!.

التقيت بأصدقاء صحفيين قبل الوصول إلى قصر خداوج العميا، لم يكن الدخول سهلا، أو كان كذلك لكن مع بعض الاستفزاز، إذ حاول الحراس منعنا من الدخول بحجة أننا غير مدعوين!! قالوا ذلك على الرغم من أن الدعوة وصلتنا من الوزارة شخصيا.. تبا. غياب رهيب في التنسيق، تحدث كثيرا مثل هكذا أمور في الصحافة، وكأن الجميع “موسوس” من الصحافة، بمجرد أن تقول أنك صحفي ينظر إليك الجميع بعين الريبة !. قد أحكي يوما عن التجارب الطريفة والمستفزة التي حدثت لي في هكذا مواقف. المهم أننا دخلنا وكانت تلك هي المرة الأولى التي أزور بها قصر خداوج العميا، كان قصرا عثماني الطراز، جميل جدا. بني على طريقة بيوت القصبة العتيقة التي تتكون من طابقين مع باحة في الوسط. يشبه إلى حد كبير قصر رياس البحر الذي لا يبعد عنه إلا مسافة قريبة ويطل على البحر.

لدى دخولنا أخذنا أمكنتنا، كنت رفقة صحفيين اثنين صديقين. زهرة بيطاط لم تكن حضرت بعد، ولم أعلم أن خليدة تومي وزيرة الثقافة ستحضر هي الأخرى، بعد قليل وقت أتت، كانت زاهية، جميلة في حلتها، لم تختلف كثيرا عن الصورة التي التقطت لها حين قبض عليها أثناء الثورة التحريرية، وكأنها لم تتغير منذ ذلك الوقت. كانت معها خليدة تومي وزيرة الثقافة، جلست على بعد صفين مني، كانت هناك، إنها هي، هي بشحمها ولحمها.. بقيت دقائق أحدق بها، قمت والتقطت لها صورا، ألقيت عليها التحية في داخلي “هاي.. هل تذكرتني”، وكأنني أحدثها بطفولتي التي كانت يوما ما، حينما كانت أصغر مما أراها، وكنت أنا أصغر مما أنا عليه.
تحدثت ذلك اليوم.. وسمعتها بكل ما في قلبي من شغف، لم تقل كل شيء بالتأكيد. قالت كيف أنها التقت بعلي لابوانت والعربي بن مهيدي وحتى عمر الصغير، ذلك الذي يأسر لب وعقل وقلب كل من شاهدفيلم “معركة الجزائر”. إحساس غريب داهمني وأنا أسمع منها حكاياتها عن الثوار، عن بن بولعيد شخصيا، بن بولعيد الاسطورة الذي يسكن روح كل إنسان جزائري، أقف أمام أحد من التقوه وجها لوجها وشاركوا معه خلال ثورة التحرير، مشاعر لا أقدر على وصفها وأنا أسمع لها ماكانت تقوله، فوق طاقتي أن تحملت كل ذاك، لم تبقى إلا الدموع لم تنزل، توقفت هناك عند مقلة عيني. ربما لأن الجو العام لم يكن يسمح بذلك، أو هكذا حسبت، بعد أن كانت الموسيقى حاضرة بقوة، والتي لم تكن أبدا تتناسب مع لقاء كهذا!.

هل تتخيلون أن تلتقوا يوما ذلك الشغف وذلك الخيال واقعا أمامكم؟. أحسست أني التقيته ذلك اليوم. كنت أريد لو أتقدم منها مقبلا رأسها، لكنني بقيت في مكاني جامدا هكذا أحاول أن أبدو عاديا وسط الأجواء العادية.. لكن ما في قلبي كان، وكنت معه.

بعد أن انتهى اللقاء، انسحبت خارجا، كنت قد سجلت كلامها الذي قالته عن الثورة وأصدقائها الذين قضوا حياتهم، المجاهدون والبلاد وغيرها الكثير من الأمور. كل ما همني من الأمر أني وقفت على حلمي من دون أن يفر مني بعيدا، شاهدته عن قرب وتحسسته إن لم يكن مجرد حلم.. ولم يكن كذلك..

شاركنا رأيك

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s