قراءة وكتابة في ليلة باردة

في غمرة الوحدة التي تنساب مع البرد في هذه الليالي الشتوية، كل ما أريده وبشدة هو أن أقرا وأقرا وأقرا، لدي زاد من الكتب يكفيني إلى نهاية فصل الشتاء، عشرات الروايات التي تنتظرني صفحاتها كي أنشغل بها مع كتب أخرى في السياسة والفكر وغيرها.

أنغمس في قراءة رواية “باولا” لإيزابيل الليندي، أقرا باشتهاء كل حرف تكتبه تلك الرائعة التشيلية التي تبرع جيدا في غرس قرائها في عالمها الواسع الذي يتشعب كلما استسلمنا للذة الحكايا التي ترويها على مسامعنا. بعد كل ذلك، وبعد أن ينالني نوع من الخدر في عيني أتحمس للكتابة، لا أعرف لم كلما قرأت شيئا تطالني معه رغبة خفية في الكتابة؟ !. ليس هناك شيء معين أرغب في الكتابة عنه، فقط رغبة خفية تحدوني لأرفع قلمي وأخط شيئا ما على الورق، قد يصبح الأمر عبثيا حين لا يكون هناك شيء ما نفكر في كتابته، فتتحول تلك الرغبة إلى رموز غريبة أخطها على الأوراق، وأحيانا تكون تلك الرسومات بلا معنى واضح، ولأنني لست بارعا في الرسم، يشعرني ما أخطه على الأوراق بخيبة أمل في رغبتي بالكتابة. وأحيان أخرى، على صفحة الوورد على الكمبيوتر أرسم بعض الحروف اللامتناسقة، أحاول بشدة أن أعبر عن الحماسة في داخلي بكتابة شيء له معنى، لكنني أفشل في ذلك. أكتب سطرا أو سطرين وأحيانا فقرة كاملة لكنني سرعان ما أضغط على زر الحذف حتى تروح الحروف يختفي الواحد منها تلو الآخر، وأعود مجددا إلى إيزابيل معلنا فشلي ربما من إبداع شيء شبيه ببعض ما كتبته، متأكد من أن الكاتب دوما ما يؤثر أسلوبه الكتابي في القارئ، وهذا ما تفعله معي الروايات فأحاول تقليد كتابها في إبداعاتهم، وهو سبب فشلي في أن أبدع في كتابة شيء ما.

بالعودة إلى الرغبة في القراءة، تحكمني عادة غريبة لم أستطع التخلص منها وهي قراءة عدة كتب في نفس الوقت، الآن مثلا، بين يدي رواية “باولا” لإيزابيل الليندي والتي قرأت نصفها وكتاب “ضغط الكتابة وسكرها” للكاتب السوداني أمير تاج السر، وكذا كتاب مترجم عن المملكة العربية السعودية اسمه “المملكة من الداخل” لمؤلفه روبرت لاسي (هذا الكتاب لا أعرف حتى لم اقتنيته، سأكتب تدوينة عن كيف أثر  تسويقه على الانترنت في حتى اشتريته)، هذه الكتب الثلاث أتداول على قراءتها بشكل شبه يومي على الرغم من أن العمل يأخذ مني كل وقتي وما تبقى من وقت يذهب للراحة أو للنوم. لكن رغم ذلك أشتهي أن افتح كتابا وأقرا منه حتى أشعر برغبة في الغوص فيه عميقا. أعترف أن هذه العادة ليست جيدة إذ أنني أفقد تركيزي ما بين الكتب الثلاثة، ولا يتعلق الأمر حين قراءتي لهذه الكتب في نفس الوقت بالاستفادة منها بقدر ما يكون الأمر مجرد رغبة في إشباع جوع داخلي، شره القراءة ربما، قرأت مرة عن مرض يصاب به الكثيرون ممن لديهم رغبة كبيرة في القراءة، وكأن القراءة تصبح عند أولئك كالأكل عند من هم مصابون بشره الأكل.

بخصوص الكتابة، على الرغم من أنني أكتب يوميا ما يفوق الخمسمائة كلمة في مختلف المواضيع الصحفية التي أكتبها، إلا أنني في غير المواضيع الصحفية لا أرضى عن نفسي، بل حتى في الكثير من المواضيع الصحفية التي أكتبها لا أفعل ذلك، لا اعرف السبب.. بعض من هم حولي ويحتكون بي يثنون على كتاباتي ويقولون أنها رائعة، لكن في داخلي أشعر برغبة في حذف كل أكتبه بعد مرور وقت قصير على كتابته، هذا الإحساس بالنسبة لي يشبه تفسير إحدى قبائل الحضارات القديمة للزمن الذي حسبها يتكون من الماضي وفقط، “الحاضر” عندها لا نعيشه لأنه يتحول في رمشة عين إلى ماضي، هي كذلك بالنسبة لي كتاباتي تصبح في رمشة عين، كتابات ناقصة لا تصل إلى حد أن أرضى عنها بأن تبقى بعض الوقت “حاضرا” أو ترتقي لأن تصبح “مستقبلا” ربما لدى تلك القبائل، والذي هو غير موجود طبعا.

ورغم أني أخط الحروف ها هنا بصعوبة، من دون رضاي التام عنها، أحاول جاهدا بقدر رغبتي الكبيرة في القراءة وممارستها فضلا عن ذلك أن اكتب وأنا ارغب في ذلك أيضا، لا أنكر أن إيزابيل الليندي ألهمتني.. تلك المرأة القصيرة التي تتحدث عن كل شيء، عن تفاصيل يومية عاشتها ماضيا، وبعضها التي تجاوزت عمرها. أريد كذلك أن اكتب عن تفاصيل صغيرة عايشتها وأعايشها فقط لأحس قليلا بوجودي.. أليست الكتابة في الأخير دعوة للخلود؟.

في الأخير، سعيد لأني كتبت شيئا، سعادة ربما غير مكتملة لأن ما كتبته لا يرضيني بالكامل، لكن من جهة أخرى بعض السعادة تكمن في قدرتي بشكل ما على تجاوز الحاجز الذي كان بيني وبين الكتابة.

4 thoughts on “قراءة وكتابة في ليلة باردة

  1. جَميل هذا الشغف الذي تَجدُه في القراءة .. و تلكَ -الشراهة- الممتعة
    متَمنيًا لكَ أن تجدَ لكَ في الكتابة المكان الذي تبحَثُ عنه ..
    شُكراً لمشاركتنا القراءة و الكتابة 🙂

  2. هموم الكتابة اصبحت موضوعا شيقا وجميلا في الادب ..(الكاتب والاخر ) لليسكانو من اروع ما كُتب في هذا الموضوع واجزم انه اجمل من كتاب تاج السر ذلك ..انا امقت ان يكتب الكاتب بعد نجاحه الا ان اظطر لذلك كحنا مينا في (الرواية والروائي) وسوف يعجبك جدا ان قرأته ، لا داعي لان تخبرنا (الكاتب اعني ) لهمومك بعد ان نجحت احكي لنا بنزاهة عما كنته لما كنت مراهقا غير متزوج لا تملك سكنا ومتلظٍ بنار الغموض وضبابية المستقبل تكتبلي هموم الكتابة بعد ان اصبحت معروفا ولديك ابناء وسيارة (كل كلامك واسمحلي الكلام موجه لكتاب السيرة الادبية هراء محض ) انهم دوما ملائكة ورائعون مطيعون للاباء ولايملكون اي مشاعر حميمة ..من السير المميزة والتي لم تفعل هذا هي سيرة المسيري غير الموضوعية كما عنونها هو نفسه و سيرة ادونيس وسيرة جلال احمد امين…. ما لا يجعلني اقرأ الليندي و غارسيا واخرون هو استهلاكيتهم ..انا اقدر اعمالهم جدا لكن جيلهم ذاهب للتآكل انهم في عالم بعيد جدا ..بعيد وغير ممكن التحقيق.. 🙂

    هؤلاء الكتاب يعتقدون في انفسهم كثيرا اكثر من اللازم ..وتوجد مسافات ضوئية بينهم وبين قرائهم ..ميلان كونديرا لما تقراه تقرأ نفسك ..ليسكانو ، مونتيرسور ، بورخيس..الباقي لما تنزلون من ابراجكم للاسواق سنحاول قرائتكم ..

  3. صدقني يونس لا يهمني في كثير من الاحيان حين اقرا سيرة الروائيين، وليس غيرهم من الكتاب، ان يهمني حقيقة ما يكتبه عن انفسهم. استمتع بالقراءة وفقط، بتجارب حياتهم حتى ولو لم تكن حقيقية، في الاخير انا اقرا الروايات التي ينسجها هؤلاء من خيالهم. كالقراءة لايزابيل الليندي، تلك المرأة لها قدرة كبيرة على نسج الحكايات وهو ما يثير في الرغبة في ان اقرا كل حرف مما تكتبه، غير ذلك اظنك اكثر مني دراية بواقع الكتاب وبعدهم عن قراءهم حين ينغمسون في الكتابة :).

شاركنا رأيك

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s